معالم المدينة الفاضلة في عصر الظهور
قضت الارادة الالهية ان لا تنتهي اوراق سجل التاريخ الا بسطور العدالة. و جاء التاكيد الالهي بانه لو لم يبق من عمر الدنيا الا يوما واحدا لطول الله ذلك اليوم حتي يتحقق الحلم الموعود و تنبت شجرة العدالة في ربوع المجتمع الانساني و تمتليء الارض قسطا و عدلا بعد ان ملئت ظلما و جورا. و البحث الآتي يستعرض جانبا من ملامح المدينة الاسلامية الفاضلة.
مدينة العدل
يدعي الغرب بأنه سخر امكاناته العلمية و التقنية لاستعادة الراحة العالمية للانسان الى ما كانت عليه في الماضي. بيد ان الانسان و رغم كل هذه الجهود، لم يحصل على راحته. فهو يرى العالم ضيقا و مظلما و باردا. و يشعر فيه بالتفاهة و الحقارة. و ان هذا لمسير لا يؤدي ـ باعتقاد المنتقدين من داخل هذا النظام ـ الا الى القضاء على الانسان. فلنقرا ما يكتبه احد الفرنسيين المنتقدين للنظام الغربي:
«ارادت الحضارة الحديثة، في خطواتها الاولية ان تكون انسانية، و قد اعطت الانسان اصالة بنحو اعتبرته مبدا و غاية كل شيء. بيد ان الحضارة التي رفعت نظرية تقديس الانسان، اضحت بمثابة نظام يحتقر الانسان و يخدعه و يسعي للقضاء عليه. احتقار الانسان بهذا المعنى و هو انها حولت الانسان الى آلة تؤدي سلسلة من الوظائف المادية و الكمية، و الى ماكينة منحصرة بالمنتج و المستهلك».
بيد ان هدف المدينة الاسلامية الفاضلة و بالصورة التي ذكرناها، لا تكتفي براحة البدن، و لا بوفرة الثروة و الرفاه المادي. بل هو ان الانسان في تصوير مهندسي هذه المدينة ليس جسدا فحسب، بل موجود ذات ابعاد مختلفة، و ان نموه و تكامله منوط بالنمو المتوازن لجميع هذه الابعاد. و ان تلك الجنة الارضية لن تتحقق ما لم تحل فيها بارقة السماء. ان تربية الناس و نموهم الروحي، و الالتفات الي الاخلاق والخصائص الروحيه، التي هي من اكثر معالم الظهور اهمية و اصاله، تجد معناها في هذا الجانب.
ان المدينة الفاضلة في ذات الوقت التي هي مدينة العداله، هي مدينة الرفاه و مدينة الامن ايضا و في ذات الوقت التي هي مدينة التربية، هي مدينة السجايا و الفضائل الانسانية ايضا. ففي هذه الاجواء يتربي الافراد الصالحون ليبنوا مجتمعا صالحا و هادفا. و الي جنب حصول الناس علي ثرائهم المادي، ينهلوا من الثراء الروحي و المعنوي. و الي جوار اتمام النعمة و وفور الثروه، يجدون الطريق الي تكامل الاخلاق و الفضائل الانسانيه. اذ تستاصل الاحقاد من القلوب، و ينتفي الكذب و التزوير و الدناءة من العلاقات الاجتماعية لتحل محلها الصراحة و الصدق و الاخلاق. ففي غير هذه النظرة الشاملة للانسان، و الي جنب ترتيب اجزائه الحقيقية في مقابل بعض، لا يستطيع الخوض في تعبير حلم الانسان الدائم في تحقيق اهداف المدينة الانسانية.
مدينة العلم
عصر الظهور هو عصر انتشار العلم و المعرفه. و المدينة الاسلامية الفاضله، هي مدينة العلم. و مع اطلالة المنجي الحقيقي يحل العلم و المعرفة و الحكمة محل الجهل و الاميه، و يمتليء العالم بنور العقل و المعرفه، مثلما يحل العدل و القسط محل الظلم و الجور، و النظم و الاستقرار محل اللاملائمات الاجتماعيه. فمثلما يعمل مجيئه (عج) علي امتلاء الارض بالقسط و العدل، كذلك يروي ظماها من العلم و الحكمة ايضا. يضفي علي طاقات الناس العقلانيه، و يوصل عقولهم و قدراتهم الي مرحلة الكمال. تظهر العلوم و المعارف التي بقيت كامنة وراء الحجب طوال العصور، و تنتشر، و تمتد حدود العلم و التعلم الي اعماق وجود كل شخص، بغض النظر عن كونه امراة او رجل.
مدينة العدالة
ليست العدالة لفظا غريبا، كما انها ليست بالحقيقة القربية ايضا. قرون متمادية و الانسان يعيش هذا الحلم ليل نهار، بيد انه لم يجن غير الظلم و الاجحاف و الجور و الاختناق.
لقد قرانا و سمعنا مرارا ان اناسا كثيرين، علي مدي التاريخ، جعلوا من هذه الحقيقة امرا حيا خالدا، من خلال محاولاتهم في الكشف عن ابعاد هذا المفهوم و دعوة الناس لتجسيده. بيد ان المساعي العلمية لهؤلاء الخيرين علي طريق تحكيم العدالة باءت بالفشل غالبا او كانت عديمة الجدوي، و بقيت العدالة في مفهومها الحقيقي خيالا و حلما.
كم هو صعب تجسيد هذه الرؤيا الجميله، الرؤيا التي امتزجت بكيان الانسان علي مر التاريخ ... و لكننا نعلم ان هذا الحلم سيتحقق يوما مهما طال الانتظار. و تبقي اشراقة الامل هذه هاجس القلوب المتعطشة لاطلالة المنجي، مهما تعاقبت السنين و الاعوام. تبقي القلوب تنتظر بشوق من اسمه «العدل»: «السلام علي ... العدل المشتهر» .. كلامه عدل، و سبيله عدل، و حكومته حكومة العدل .. ليست في معالم حكومة الامام المهدي و نهضته، سمة و خصوصية اوضح و اظهر من «القسط و العدل». فالتاكيد الذي ورد في المرويات علي خصوصية انتشار عدالة الامام الحجة (عج)، لم يرد في أي خصوصية اخرى. و ان هذا بحد ذاته يشير الي عظمة العدالة و اهميتها في اجهزة المدينة الاسلامية الفاضلة في عصر الظهور. هناك عشرات بل مئات المرويات في كتب الحديث المختلفه، خاصة كتاب «منتخب الاثر» و «كمال الدين» للشيخ الصدوق، تحدثت عن عمل الامام علي اشاعة العداله. و قد وصف هذا الامام الهمام في الكثير من هذه الروايات بانه مظهر العدل و تجلي العداله. و ان اطلاق اسم «العدل» علي الامام هو في الحقيقة ترجمة دقيقة لرسالته.
يكتب صاحب «مكيال المكارم» بهذا الشان فيقول: «العدل، هو من اوضح الصفات الطيبة لهذا الامام، و لذلك سمي ب«العدل» كما ورد في دعاء ليالي رمضان: «اللهم و صل علي ولي امرك القائم المؤمل و العدل المنتظر» .. و في موضع آخر نجد هذا العنوان بنحو آخر: «اول العدل و آخره»، و «السلام علي القائم المنتظر و العدل المشتهر ...».
و في ظل هذه العدالة تزول القيود من الانسان، و يعود الي الناس حقهم المسلوب .. تزول قيود العبودية الظاهرة و الباطنة، و تتحرر رقاب الناس، و تزول ارضية استغلال الانسان لاخيه الانسان تماما. يقاد عمال الظلم و الجور الي التحقيق، و يعزل القضاة و الحكام الظلمة عن مناصبهم، و تطهر الارض من اي نوع من انواع الخيانة .. يسحق المستكبرون، و ينجح المحرومون و المستضعفون في استرجاع حقوقهم، و عندها لن تذرف دمعه و لا تتعالي آهه، و لن يبيت انسان جائعا، و لن يمضي اي محروم يومه مضطربا خائفا.
مدينة الرفاه
المدينة الاسلامية الفاضلة، مدينة الرفاه و الراحة و السعادة للجميع. الرفاه و النعيم بهذا المعني و هو انك لا تجد في المجتمع محتاجا، لان الموارد و الثروات توزع بصورة عادله. فطالما كانت حقوق الناس هي الهدف في مدينة العداله، فمن الطبيعي ان تجد الرفاه و النعيم و النعم الالهية في متناول الجميع.
ان ما تفيده روايات الظهور بهذا الخصوص، يشير الي ان احتياجات الانسان المادية و تطلعاته هي في طليعة اهداف المدينة الاسلاميه. فهي ليست فقط لم تنف، بل احتلت مكانا لها في الصداره. و ان الناس ليس فقط لن يلاموا علي اهتماماتهم الماديه، بل ان اهتماماتهم هذه تحظي بالتفاته الباريء عز و جل. و مما يروي عن الرسول الاكرم (ص) قوله: اذا ما قام المهدي في امتي، يرفل الناس بالنعيم بدرجه لم يشهدوا مثله من قبل. و ان هذا النعيم يشمل الجميع دون استثناء. و تغدق السماء عليهم مدرارا، و لن تبخل الارض عليهم ببركاتها .. و هناك احاديث اخري تتحدث عن وفور المال، و كثرة النعم، و زوال المعاناه، و الراحة في الحصول علي ما تطلبه، و اداء دين المدينين. و كذلك احاديث تتحدث عن غني الناس و انتفاء الحاجه، و عن عطاء الامام للجميع بنحو يصبحون فيه في غني عن الآخرين. و توجد احاديث تتحدث ايضا عن اعمار الارض اذا ما قام الامام المهدي، و تفيض الارض بزرعها و كنوزها و مواردها، كل كذلك من اجل رفاه الناس و راحتهم.
مدينة الامن و السلام
باعتقاد علماء النفس ان الحاجة الي الامن هي في طليعة احتياجات الانسان الاساسيه. و بطبيعة الحال تتجلي هذه الحاجة في جوانب مختلفه، منها الامن الاخلاقي، و الامن الاقتصادي، و الامن الحقوقي، و الامن الاجتماعي و الاسري الي غير ذلك. و ان هناك عدداكبيرا من احاديث الظهور يفيد بان المدينة الاسلامية الفاضلة هي مدينة الامن و السلام. الامن بمعناه الواقعي و الحقيقي و بمختلف جوانبه. و مما يروي عن الامام الصادق (ع) قوله في تفسير الآية الشريفه: «وعد الله الذين آمنوا منكم .. ليستخلفنهم في الارض .. و ليبدلنهم من بعد خوفهم امنا، «انها نزلت في القائم و اصحابه»، و هذا يعني ان وعد الله مبني علي استبدال خوف المؤمنين و ذعرهم الي امن و سلام، و ان ذلك يتجلى معناه و مصداقه الكامل في عصر ظهور الامام المهدي (عج). و عليه فان المنحدرات و المطبات الخطيرة التي تظهر في حياة الانسان نتيجة للعلاقات غير السليمة السائدة في المجتمع، لا مكان لها في اجواء المدينة الاسلامية الفاضله. و هي ايضا سعادة ارضية في مدينة الهية هادفه.
مدينة التربية
من خصوصيات عصر الظهور المهمة جدا، هي ان القوي تحل الواحدة محل الاخري، و يحصل تغيير و تحول في بنيتها. فالحكومة في المدينة الفاضلة تكون بايد ابناء المجتمع من المحرومين و المستضعفين. هؤلاء الذين تحملوا قبل الظهور عبء الفقر و الحرمان و الاستبداد الثقيل. و الآن حيث يقفون علي اعتاب تطبيق العداله، ينبغي ان يتمتعوا بحقهم المسلم في الوراثة و الامامة.
و هكذا تجد الجنة الارضية طريقها الي الواقع الخارجي، بامتلاء الارض بالعدل و العداله، و تمتع الجميع بالرفاه و الراحة و الامن، و استرجاع الانسان جميع ابعاد وجوده في ظل التربية، و اتساع رقعة العلم و الحكمه، و مشاركة الجماهير المحرومة في اتخاذ القرار و تغيير البنية السياسية للمجتمع.
تعليق