مولد علم الأصول
السيد محمد باقر الصدر
نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث تبعاً للمراحل التي مر بها علم الشريعة.
ونريد بعلم الشرعية العلم الذي يحاول التعرف على الأحكام التي جاء الإسلام بها من عند الله تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الإسلام متمثلاً في الحملة التي قام بها عدد كبير من الرواة لحفظ الأحاديث الواردة في الأحكام وجمعها ، ولهذا كان علم الشريعة في مرحلته الأولى قائماً على مستوى علم الحديث ، وكان العمل الأساسي فيه يكاد أن يكون مقتصراً على جمع الروايات وحفظ النصوص. وأما طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص والروايات فلم تكن ذات شأن في تلك المرحلة ، لأنها لم تكن تعدو الطريقة الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعض في المحاورات الاعتيادية.
وتعمقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص حتى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملاً لا يخلو عن دقة ويتطلب شيئاً من العمق والخبرة ، فانصبت الجهود وتوافرت لاكتساب تلك الدقة التي أصبح فهم الحكم الشرعي من النص واستنباطه من مصادره بحاجة إليها ، وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي وولد علم الفقه ، وارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط والاستدلال العلمي الدقيق.
ومن خلال نمو علم الفقه والتفكير الفقهي وإقبال علماء الشريعة على ممارسة عملية الاستنباط ، وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلبها من الدقة والعمق. أقول: من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف ، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد التفكير الأصولي وعلم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً اصولياً.
وهكذا ولد علم الأصول في أحضان علم القفه ، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعي كامل بطبيعتها وحدودها وأهمية دورها في العملية ، أصبحوا بعد تغلغل الاتجاه الأصولي في التفكير الفقهي يعون تلك العناصر المشتركة ويدرسون حدودها.
ولا نشك في أن بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمة (ع) منذ أيام الصادقين عليهما السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي ، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق (ع) وغيره من الأئمة (ع) وتلقوا جوابها منهم (1). فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم واتجاههم إلى وضع القواعد العامة وتحديد العناصر المشتركة. ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الأئمة (ع) ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية ، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الذي ألف رسالة في الألفاظ.
وبالرغم من ذلك فإن فكرة العناصر المشتركة وأهمية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح والعمق الكافيين في أول الأمر ، وإنما اتضحت معالمها وتعمقت بالتدريج خلال توسع العمل الفقهي ونمو عمليات الاستنباط ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسة علمية مستقلة عن البحوث الفقهية وتصبح قائمة بنفسها إلا بعد مضي زمن منذ ولادة البذور الأولى للتفكير الأصولي ، فقد عاش البحث الأصولي ردحاً من الزمن ممتزجاً بالبحث الفقهي غير مستقل عنه في التصنيف والتدريس ، وكان الفكر الأصولي خلال ذلك يثري ويزداد دوره وضوحاً وتحديداً ، حتى بلغ في ثرائه ووضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.
ويبدو أن بحوث الأصول حتى حين وصلت إلى مستوى يؤهلها للاستقلال ، وبقيت يتذبذب بين علم الفقه وعلم أصول الدين ، حتى أنها كانت أحياناً تخلط ببحوث في أصول الدين والكلام ، كما يشير إلى ذلك السيد المرتضى في كتابه الأصولي (الذريعة) إذ يقول: (قد وجدت بعض من أفراد لأصول الفقه كتاباً – وإن كان قد أصاب في سرد معانيه وأوضاعه ومبانيه – ولكنه قد شرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتعداها كثيراً وتخطاها ، فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر العلم ووجوب المسبب عن السبب... إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في أصول الدين دون أصول الفقه).
وهكذا نجد أن استقلال علم أصول الفقه بوصفه علماً للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقه وكلام ، لم ينجز إلا بعد أن اتضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وضرورة وضع نظام عام لها ، الأمر الذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الأصولي وطبيعة البحوث الفقهية والكلامية ، وأدى بالتالي إلى قيام علم مستقل باسم (علم أصول الفقه).
وبالرغم من تمكن علم الأصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الكلام (علم أصول الدين)، فقد بقين فيه رواسب فكرية يرجع تاريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام ، وظلت تلك الرواسب مصدراً للتشويش ، فمن تلك الرواسب – على سبيل المثال – الفكرة القائلة بأن أخبار الآحاد (وهي الروايات الظنية التي لا يعلم صدقها) لا يمكن الاستدلال بها في الأصول ، لأن الدليل في الأصول يجب أن يكون قطعياً. فإن مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام ، ففي هذا العلم قرر العلماء أن أصول الدين تحتاج إلى دليل قطعي ، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد مثلاً بأخبار الآحاد ، وقد أدى الخلط بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه واشتراكهما في كلمة الأصول إلى تعميم تلك الفكرة إلى أصول الفقه ، ولهذا نرى الكتب الأصولية ظلت إلى زمان المحقق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقاً من تلك الفكرة.
ونحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين أصول الفقه وأصول الدين تصورات دقيقة نسبياً ومحددة عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، فقد كتب يقول: (إعلم أن الكلام في أصول الفقه إنما هو على الحقيقة كلام في أدلة الفقه.... ولا يلزم على ما ذكره أن تكون الأدلة والطرق إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولاً ، لأن الكلام في أصول الفقه إنما هو كلام في كيفية دلالة ما يدل من هذه الأصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل ، وأدلة الفقهاء إنما هي على نفس المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل).
وهذا النص في مصدر من أقدم المصادر الأصولية في التراث الشيعي ، يحمل بوضوح فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويسميها أدلة الفقه على الإجمال ، ويميز بين البحث الأصولي والفقهي على أساس التمييز بين الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية – أي بين العناصر المشتركة والعناصر الخاصة في تعبيرنا – وهذا يعني أن فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرة وقتئذ إلى درجة كبيرة ، والفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي وابن زهره والمحقق الحلي وغيرهم ، فانهم جميعاً عرفوا علم الأصول بأنه (علم أدلة الفقه على وجه الإجمال) وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة.
ففي كتاب العدة قال الشيخ الطوسي: (أصول الفقه هي أدلة الفقه فإذا تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما يقتضه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة ، ولا يلزمنا عليها أن تكون الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه ، لأن هذه الفقه أدلة على تعيين المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل).
ومصطلح الإجمالية والتفصيلية يعبر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر الخاصة.
ونستخلص مما تقدم أن ظهور علم الأصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقف على وصول عملية الاستنباط إلى درجة من الدقة والاتساع وتفتح الفكر الفقهي وتعمقه ، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخر ظهور علم الأصول تاريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ، وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها بأساليب البحث العلمي ، ولأجل ذلك كان من الطبيعي أيضاً أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجاً وتدق على مر الزمن حتى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها الصحيحة وتتميز عن بحوث الفقه وبحوث أصول الدين.
__________________________
(1) فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة ، وفية حجية خبر الثقة وفي أصالة البراءة ، وفي جواز إعمال الرأي والاجتهاد... وما إلى ذلك من قضايا.
السيد محمد باقر الصدر
نشأ علم الأصول في أحضان علم الفقه ، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث تبعاً للمراحل التي مر بها علم الشريعة.
ونريد بعلم الشرعية العلم الذي يحاول التعرف على الأحكام التي جاء الإسلام بها من عند الله تعالى. فقد بدأ هذا العلم في صدر الإسلام متمثلاً في الحملة التي قام بها عدد كبير من الرواة لحفظ الأحاديث الواردة في الأحكام وجمعها ، ولهذا كان علم الشريعة في مرحلته الأولى قائماً على مستوى علم الحديث ، وكان العمل الأساسي فيه يكاد أن يكون مقتصراً على جمع الروايات وحفظ النصوص. وأما طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص والروايات فلم تكن ذات شأن في تلك المرحلة ، لأنها لم تكن تعدو الطريقة الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعض في المحاورات الاعتيادية.
وتعمقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص حتى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملاً لا يخلو عن دقة ويتطلب شيئاً من العمق والخبرة ، فانصبت الجهود وتوافرت لاكتساب تلك الدقة التي أصبح فهم الحكم الشرعي من النص واستنباطه من مصادره بحاجة إليها ، وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي وولد علم الفقه ، وارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط والاستدلال العلمي الدقيق.
ومن خلال نمو علم الفقه والتفكير الفقهي وإقبال علماء الشريعة على ممارسة عملية الاستنباط ، وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلبها من الدقة والعمق. أقول: من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة (العناصر المشتركة) في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف ، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد التفكير الأصولي وعلم الأصول واتجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً اصولياً.
وهكذا ولد علم الأصول في أحضان علم القفه ، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعي كامل بطبيعتها وحدودها وأهمية دورها في العملية ، أصبحوا بعد تغلغل الاتجاه الأصولي في التفكير الفقهي يعون تلك العناصر المشتركة ويدرسون حدودها.
ولا نشك في أن بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمة (ع) منذ أيام الصادقين عليهما السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي ، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق (ع) وغيره من الأئمة (ع) وتلقوا جوابها منهم (1). فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الأصولي عندهم واتجاههم إلى وضع القواعد العامة وتحديد العناصر المشتركة. ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الأئمة (ع) ألفوا رسائل في بعض المسائل الأصولية ، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام الذي ألف رسالة في الألفاظ.
وبالرغم من ذلك فإن فكرة العناصر المشتركة وأهمية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح والعمق الكافيين في أول الأمر ، وإنما اتضحت معالمها وتعمقت بالتدريج خلال توسع العمل الفقهي ونمو عمليات الاستنباط ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسة علمية مستقلة عن البحوث الفقهية وتصبح قائمة بنفسها إلا بعد مضي زمن منذ ولادة البذور الأولى للتفكير الأصولي ، فقد عاش البحث الأصولي ردحاً من الزمن ممتزجاً بالبحث الفقهي غير مستقل عنه في التصنيف والتدريس ، وكان الفكر الأصولي خلال ذلك يثري ويزداد دوره وضوحاً وتحديداً ، حتى بلغ في ثرائه ووضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.
ويبدو أن بحوث الأصول حتى حين وصلت إلى مستوى يؤهلها للاستقلال ، وبقيت يتذبذب بين علم الفقه وعلم أصول الدين ، حتى أنها كانت أحياناً تخلط ببحوث في أصول الدين والكلام ، كما يشير إلى ذلك السيد المرتضى في كتابه الأصولي (الذريعة) إذ يقول: (قد وجدت بعض من أفراد لأصول الفقه كتاباً – وإن كان قد أصاب في سرد معانيه وأوضاعه ومبانيه – ولكنه قد شرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتعداها كثيراً وتخطاها ، فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر العلم ووجوب المسبب عن السبب... إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في أصول الدين دون أصول الفقه).
وهكذا نجد أن استقلال علم أصول الفقه بوصفه علماً للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقه وكلام ، لم ينجز إلا بعد أن اتضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وضرورة وضع نظام عام لها ، الأمر الذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الأصولي وطبيعة البحوث الفقهية والكلامية ، وأدى بالتالي إلى قيام علم مستقل باسم (علم أصول الفقه).
وبالرغم من تمكن علم الأصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الكلام (علم أصول الدين)، فقد بقين فيه رواسب فكرية يرجع تاريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام ، وظلت تلك الرواسب مصدراً للتشويش ، فمن تلك الرواسب – على سبيل المثال – الفكرة القائلة بأن أخبار الآحاد (وهي الروايات الظنية التي لا يعلم صدقها) لا يمكن الاستدلال بها في الأصول ، لأن الدليل في الأصول يجب أن يكون قطعياً. فإن مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام ، ففي هذا العلم قرر العلماء أن أصول الدين تحتاج إلى دليل قطعي ، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد مثلاً بأخبار الآحاد ، وقد أدى الخلط بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه واشتراكهما في كلمة الأصول إلى تعميم تلك الفكرة إلى أصول الفقه ، ولهذا نرى الكتب الأصولية ظلت إلى زمان المحقق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقاً من تلك الفكرة.
ونحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين أصول الفقه وأصول الدين تصورات دقيقة نسبياً ومحددة عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، فقد كتب يقول: (إعلم أن الكلام في أصول الفقه إنما هو على الحقيقة كلام في أدلة الفقه.... ولا يلزم على ما ذكره أن تكون الأدلة والطرق إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أصولاً ، لأن الكلام في أصول الفقه إنما هو كلام في كيفية دلالة ما يدل من هذه الأصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل ، وأدلة الفقهاء إنما هي على نفس المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل).
وهذا النص في مصدر من أقدم المصادر الأصولية في التراث الشيعي ، يحمل بوضوح فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ويسميها أدلة الفقه على الإجمال ، ويميز بين البحث الأصولي والفقهي على أساس التمييز بين الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية – أي بين العناصر المشتركة والعناصر الخاصة في تعبيرنا – وهذا يعني أن فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرة وقتئذ إلى درجة كبيرة ، والفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي وابن زهره والمحقق الحلي وغيرهم ، فانهم جميعاً عرفوا علم الأصول بأنه (علم أدلة الفقه على وجه الإجمال) وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة.
ففي كتاب العدة قال الشيخ الطوسي: (أصول الفقه هي أدلة الفقه فإذا تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما يقتضه من إيجاب وندب وإباحة وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة ، ولا يلزمنا عليها أن تكون الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه ، لأن هذه الفقه أدلة على تعيين المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل).
ومصطلح الإجمالية والتفصيلية يعبر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر الخاصة.
ونستخلص مما تقدم أن ظهور علم الأصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقف على وصول عملية الاستنباط إلى درجة من الدقة والاتساع وتفتح الفكر الفقهي وتعمقه ، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخر ظهور علم الأصول تاريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ، وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها بأساليب البحث العلمي ، ولأجل ذلك كان من الطبيعي أيضاً أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجاً وتدق على مر الزمن حتى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها الصحيحة وتتميز عن بحوث الفقه وبحوث أصول الدين.
__________________________
(1) فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة ، وفية حجية خبر الثقة وفي أصالة البراءة ، وفي جواز إعمال الرأي والاجتهاد... وما إلى ذلك من قضايا.
تعليق